فصل: تفسير الآيات (30- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 33):

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)}
قلت: {لو}: هنا، ليست امتناعية، بل إغيائية، فلا جواب لها، أي: تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشيءٍ مبين.
يقول الحق جل جلاله: {قال} موسى عليه السلام لفرعون، لَمَّا هدده بالسجن: {أوَلَوْ}؛ أتفعل ما ذكرت من سجني ولو {جِئتُك بِشَيءٍ مُبين}؛ واضح الدلالة على صدقي، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة؛ فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والتعبير عنه بالشيء؛ للتهويل. {قال} فرعون: {فَأتِ به إن كُنتَ من الصادقين} فيما قلتَ من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك، أو: من الصادقين في دعوى الرسالة.
{فألقى عصاهُ فإذا هي ثعبان مبين} أي: ظاهرثعبانيته، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. رُوي أنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة على فرعون، تقول: يا موسى؛ مرني بما شئت، فيقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا اخذتها، فأخذها، فعادت عصا. {ونزع يده} أي: أخرجها من تحت إبطه، {فإذا هي بيضاءُ للناظرين} أي: بياضاً خارجاً عن العادة، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه؛ لخروجه عن العادة.
رُوي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: هل لك غيرها؟ فأخرج يده، وقال لفرعون: ما هذا؟ قال: يدك، فأدخلها تحت إبطه، ثم نزعها، ولها شعاعٌ يكاد يُغشي الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شيء.
الإشارة: النفوس الفرعونية هي التي تتوقف في الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة، بل يخلق الله فيها الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية، من غير توقف على شيء. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (34- 37):

{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}
قلت: {حوله}: ظرف وقع موقع الحال، أي: مستقرين حوله.
يقول الحق جل جلاله: {قال} فرعونُ، لَمَّا رأى ما بهته وحيّره، {للملإِ حولَه}، وهم أشراف قومه: {إنَّ هذا لساحِرٌ عليم}؛ فائق في فن السحر. ثم أعدى قومه على موسى بقوله: {يريد أن يُخرجكم} بما صنع {من أرضكم بسحره فماذا تأمرون}؛ تُشيرون في أمره؛ من حبس أو قتل، وهو من المؤامرة، أي: المشاورة، أو: ماذا تأمرون به، من الأمر، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده- في زعمه- والامتثال لأمرهم، وجعل نفسه مأمورة، أو: إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم، بعد ما كان مستقلاً في الرأي والتدبير.
{قالوا} له: {أرْجِهْ وأخاه} أي: أَخِّرْ أمرهما، ولا تعجل بقتلهما؛ خوفاً من الفتنة أو: احبسهما، {وابعث في المدائن حاشرين} أي: شُرَطاً يحشرون السحرة، {يأتوك} أي: الحاشرون {بكل سحَّارٍ عليم}؛ فائق في فن السحر. وأتوا بصيغة المبالغة؛ ليُسَكِّنُوا بعض رَوعته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المشاورة في الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأي، وفي الحديث: «ما خَابَ مَن اسْتَخَار، ولا نَدِمَ من اسْتَشَار»، فالمشاورة من الأمر القديم، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون في أمورهم؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (38- 44):

{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}
يقول الحق جل جلاله: {فجُمِعَ السحرةُ لميقات يوم معلومٍ}، وهو ما عيّنه موسى عليه السلام بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59]. والميقات: ما وُقت به، أي: حُدّ من زمان ومكان. ومنه: مواقيت الحج. {وقيلَ للناسِ هل أنتم مُجْتَمِعُون} أي: اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام؛ حثّاً على الاجتماع. واستبطاء لهم، والمراد: استعجالهم إليه، {لعلنا نتبعُ السحرةَ} في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي: إن غلبوا موسى، ولا نتبعُ موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي ألا يتبعوا موسى، فساقوا كلامهم مساق الكناية؛ حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة؛ لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى، وهو مرادهم، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد في المغالبة.
{فلمَّا جاءَ السَّحَرةُ قالوا لفرعون أئِنَّ لنا لأجراً} أي: جزاء وافراً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ} لموسى؟ {قال نعم} لكم ذلك، {وإنكم} مع ذلك، {إذاً لمن المقربين} عندي في المرتبة والحال، فتكونون أول من يدخل عليّ، وآخر من يخرج عني. ولما كان قوله: {أئِنَّ لنا لأجراً}، في معنى جزاء الشرط؛ لدلالته عليه، وكان قوله: {وإنكم إذاً}: معطوفاً عليه، دخلت {إذاً}؛ قارة في مكانها، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.
{قال لهم موسى} بعد أن قالوا له: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} [طه: 65]: {أَلْقُوا ما أنتم مُلْقُونَ} من السحر، فسوف ترون عاقبته. لم يُرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة؛ توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، {فَأَلْقَواْ حِبَالَهم وعِصِيَّهُم}، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصاً. وقيل: كانت الحبال اثنين وسبعين، وكذا العصِيِّ. {وقالوا} بعد الإلقاء، لما رأوها تتحرك وتقبل وتُدبر: {بعزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون}، قالوا ذلك؛ لفرط اعتقادهم في أنفسهم، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر، أقسموا بعزته وقوته، وهو من أيمان الجاهلية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر القلوب إلى حضرة الحق، وسحر النفوس إلى عالم الخلق، أو: إلى عالم الخيال. فالأول: من شأن العارفين بالله، الداعين إلى الله، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، فيقال في شأنهم: فجمع السحرة بقلوبهم، إلى مقات يوم معلوم، وهو يوم الفتح والتمكين، أو يوم النفحات، عند اتفاق جمعهم في مكان معلوم. وقيل للناس، وهم عوام الناس: هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم، وتتيقظوا من نوم غفلتكم، لعنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولا شك في غلبتهم ونصرهم؛ لقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].

.تفسير الآيات (45- 51):

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}
يقول الحق جل جلاله: {فألقى موسى عصاه} من يده، {فإِذا هي تلقفُ} أي: تبتلع بسرعة {ما يأفكون}: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم، ويزورونه، فيُخيِّلون في حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى، {فأُلقي السحرةُ ساجدين} لما شاهدوا ذلك من غير تلعْثم ولا تردد، غير متمالكين لأنفسهم؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي، يدل على تصديق موسى عليه السلام. وعَبَّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة؛ لقوله: {ألقو ما أنتم ملقون}، فألقى، فلما خروا سجوداً، {قالوا آمنا بربِّ العالمين}، قال عكرمة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. اهـ. {ربِّ موسى وهارون}: عطف بيان، أو: بدل من {رب العالمين}. فدفع توهم إرادة فرعون؛ لأنه كان يدعي الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل: إن فرعون لما سمع منهم: {آمنا برب العالمين}، قال: إياي عنيتم؟ قالوا: {ربِّ موسى وهارون}.
{قال آمنتم له قبل أنْ آذنَ لكم} أي: بغير إذن لكم، كما في قوله تعالى: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]، لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع، {إنه لكبيرُكم الذي علّمكم السحرَ} فتواطأتم على ما فعلتم؛ مكراً وحيلة. أراد بذلك التلبيس على قومه؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هَدَّدَهُم بقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ}، يداً من جهة ورجلاً من أخرى، أو: من أجل خلافٍ ظهر منكم، {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} قيل: إنه فعل ذلك، ورُوي عن ابن عباس وغيره، وقيل: إنه لم يقدر على ذلك، لقوله تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} [القصص: 35].
{قالوا} أي: السحرة: {لا ضَيْرَ} أي: لا ضرر علينا في ذلك، فحذف خبر {لا}، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا} الذي عرفناه وواليناه {منقلبون} لا إليك، فيُكرم مثوانا ويُكفر خطايانا، أو: لا ضرر علينا توعدتنا به؛ إذ لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت، فلأن يكون في ذاته وسبب دينه أولى، قال الورتجبي: لَمَّا عاينوا مشاهدة الحق سَهُلَ عليهم البلاء، لاسيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه، بنعت الرضا والغفران. اهـ. ولذلك قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا} أي: لأن كنا {أَوَّلَ المؤمنين} من أهل المشهد، أو: من أَتْبَاعِ فرعون.
الإشارة: من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئاً إلا بإذنٍ من ملكهم، ولذلك أنكر فرعونُ على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم، فلا يفعلون فعلاً حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ، وللإذن سر كبير، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة في سورة الأعراف. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (52- 59):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}
قلت: أسرى وسرى: لغتان، وقرئ بهما.
يقول الحق جل جلاله: {وأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ} بقطع الهمزة ووصلها أي: سر {بعبادي} ليلاً. وسماهم عباده؛ لإيمانهم بنبيهم، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين، أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحق ويُظهر لهم الآيات، ثم أمره بالخروج، وقال: {إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ} أي: يتبعكم فرعونُ وجنوده مصبحين، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر، فيدخلوا مداخلكم، فأُطبقه عليهم فأُغرقهم. رُوي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوت القبط ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. ورُوي أن الله أوحى إلى موسى: أن أجمع بين إسرائيل، كلّ أربعة ابيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً فيه دم، وسآمرها فتقتل أبكار القبط، وأخبزوا فطيراً؛ فإنه أسرع لكم، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري. اهـ. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بني إسرائيل، فلا تقتل الملائكة فيها أحداً. عاملهم على قدر عقولهم، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أُمر به.
{فأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} حين أخبر بمسيرهم {في المدائن حاشرين}؛ جامعين للعساكر ليتبعهم، فلما اجتمعوا قال: {إنّ هؤلاء}، يريد بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ}؛ طائفة قليلة {قليلون}، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فيدل على ان كل حزب منهم قليل. أو: أراد بالقلة: الذلة، لا قلة العدد، أي: إنهم؛ لذلتهم، لا يُبالي بهم، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة: شرذمة: تقليل لهم باعتبار الكيفية، وقليلون: باعتبار الكمية، وإنما استقلّ قوم موسى- وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً-؛ لكثرة مَن معه، فعن الضحاك: كانوا سبعة آلاف ألف، ورُوي أنه أرسل في أثرهم ألفَ ألف وخمسمائة ألف ملِك مُسوّر، مع كل ملِك ألفٌ، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه خرج فرعون في ألف ألف حصان، من سوى الإناث. اهـ.
{وإنهم لنا لغائظون} أي: فاعلون ما يغيظنا، وتضيق به صدورنا، وهو خروجهم من مصر، وحملهم حُلينا، وقتلهم أبكارنا، {وإنا لجميع حاذِرُون} أي: ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن؛ لئلا يظن العجز. وقرئ {حذرون}؛ بالمد والقصر، فالأول دال على تجدد الحذر، والثاني على ثبوته.
قال تعالى: {فأخرجناهم} أي: خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه، {من جناتٍ}؛ بساتين {وعيونٍ}، وأنهار جارية، {وكنوز}؛ أموال وافرة من ذهب وفضة، وسماها كنوزاً؛ لأنهم لم يُنفقوا منها في طاعة الله تعالى شيئاً.
{ومَقَامٍ كريم} أي: منزل رفيع بَهيّ، وعن ابن عباس: المنابر.
{كذلك} أي: الأمر كذلك، أو: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب، فهو خبر، أو: مصدر تشبيهي لأخرجنا. {وأورثنا بني إسرائيل} أي: ملكناها إياهم، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث؛ لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن: لما عبروا النهر رجعوا، وأخذوا ديارهم وأموالهم. اهـ. قال ابن جزي: لم يذكر في التواريخ مُلك بني إسرائيل لمصر، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام، فتأويله على هذا: أورثناهم مثل ذلك بالشام. اهـ. قلت: بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف في مصر، ووصلت حكومتهم إليها، ولم يرجعوا إليها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينتصر نبيّ ولا وليّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه؛ سُنّة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة؛ {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (60- 68):

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
يقول الحق جل جلاله: {فأَتْبَعُوهم} أي: فأتبع فرعونُ وقومُه بني إسرائيل، أي: لحقوا بهم، وقرئ بشد التاء، على الأصل، {مُشْرِقين}؛ داخلين في وقت شروق الشمس، أي: طلوعها، {فلما تراءى الجمعان} أي: تقابلا، بحيث يرى كلُّ فريقٍ صاحبَه، أي: بنو إسرائيل والقبط، {قال أصحابُ موسى إنا لمدْرَكون} أي: قرب أن يلحقنا عدونا، وأمامنا البحر، {قال} موسى عليه السلام؛ ثقة بوعد ربه: {كلاَّ} ارتدعوا عن سوء الظن بالله، فلن يُدرككم أبداً، {إنَّ معي ربي سيهدين} أي: سيهديني طريق النجاة منهم.
رُوي أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي بموج مثل الجبال، فقال يُوشع عليه السلام: يا كليم الله، أين أُمرتَ، فقد غَشِيَنَا فرعونُ، والبحرُ أمامنا؟ قال عليه السلام: ها هنا، فخاض يُوشع الماء، وضرب موسى بعصاه البحر، فكان ما كان، وقال الذي كان يكتم إيمانه؛ يا مكلم الله أين أُمرتَ؟ قال: ها هنا. فكبح فرسَه بلجامه، ثم أقحمه البحر، فرسب في الماء، وذهب القومُ يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع؟ فأوحى الله إليه: {أن اضرب بعصاك البحر}، فضربه، فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه، لم يبتلَّ لِبْدُه ولا سَرْجه.
وقال محمد بن حمزة: لما انتهى موسى إلى البحر، دعا، فقال: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلِّ شيء، اجعل لنا مخرجاً، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر، وذلك قوله تعالى: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحرَ} أي: القلزم، أو النيل، {فانفلق} أي: فضرب فانفلق وانشقَّ فصار اثني عشر فرقاً على عدد الأسباط. {فكان كلُّ فِرْقٍ} أي: جزء من الماء {كالطَّوْدِ}: كالجبل المنطاد في السماء {العظيم}، وبين تلك الجبال من الماء مسالك، بأن صار الماء مكفوفاً كالجامد، وما بينها يَبَس، فدخل كل سبط في شعْبٍ منها.
{وأَزْلَفْنَا} أي: قَرَّبْنَا {ثَمَّ الآخرين} أي: فرعون وقومه، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم، {وأنجينا موسى ومَن معه أجمعين} من الغرق؛ بحفظ البحر على تلك الهيئة، حتى عبروه، {ثُمَّ أغرقنا الآخرين}؛ بإطباقه عليهم. قال النسفي: وفيه إبطالُ القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك، على اختلاف طوالعهم. رُوي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول: رويدكم، ليلحَق آخركم. اهـ.
{إنَّ في ذلك لآيةً} أي: في جميع ما فصّل؛ مما صدر عن موسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة، وفيما فعل فرعونُ وقومه؛ من الأفعال والأقوال، وما فُعل بهم من العذاب والنكال، لعبرة عظيمة، لا تكاد تُوصف، موجبة لأن يعتبر المعتبرون، ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله، كي لا يحل بهم ما حلّ بأولئك، أو: إن فيما فُصل من القصة؛ من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه، من غير أن يسمعها من أحد، لآية عظيمة دالة على ان ذلك بطريق الوحي الصادق، موجبة للإيمان بالله تعالى، وتصديق من جاء بها وطاعته.
{وما كان أكثرُهُم مؤمنين} أي: وما كان اكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قِصَصهم منه- عليه الصلاة والسلام- مؤمنين، فلم يقيسوا حاله صلى الله عليه وسلم بحال موسى، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلَكين، ولم يتدبروا في حكايته صلى الله عليه وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، مع كونه أمياً لا يقرأ، وكل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان، قطعاً لانهماكهم في الغفلة، فكان؛ على هذا، زائدة، كما هو رأي سيبوبه، فيكون قوله تعالى: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم في المستقبل، أو: وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السلام، قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين؛ حزيقل المؤمن من آل فرعون، وآسية امرأة فرعون، ومريم بنت ياموشى، التي دَلَّتْ على عظام يوسف. اهـ.
{وإن ربك لهو العزيز}؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من المكذبين، {الرحيم}؛ البالغ في الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم، أو: العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا الله من خاصتهم بمنِّه وكرمه، آمين.
الإشارة: قوله تعالى: {إن معي ربي سيهدين}: اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام، فالمعية، باعتبار عامة الخلق، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والإقتدار، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه، وفوض الأمر إلى سيده، وكلما قوي التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام، ولذلك فضَّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله: {سيهدين} فتأمل. والله تعالى أعلم.